الأدب المغربي

من خلال ظواهره وقضاياه

 

الجزء الأول

 

للدكتور عباس الجراري

 

ثلاث طبعات – مكتبة المعارف – 1979 – 1982 – 1986.

 

المقدمــة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

        تتدخل في البحث الأدبي – وأي درس فيما أعتقد – عناصر ثلاثة تعمل بتكامل، وفي إطار وعي الدارس بها، على بلورته سواء فيما يتعلق بتحديد نوعه أو تكييف درجته. هذه العناصر هي:

        1 – طبيعة الموضوع

        2 – مصادره

        3 – منهج التناول

* * *

 

        وإذ كان الأدب – باعتباره بنية إبداعية – يرتبط في أشكاله ومضامينه ببقية بنيات المجتمع الذي ينبغ فيه مبدعوه، فإنه لا مناص له من أن يتأثر بمختلف العناصر الجدلية التي توجه حركة تاريخ هذا المجتمع وتتحكم في تشكيل نمطه وتكوين شخصية أفراده.

 

        وعلى الرغم من الاقتناع المبدئي الذي ينطلق منه الباحث في تاريخ المغرب، والذي يجعله يتصور هذا البلد بحكم موقعه بوتقة تجمعت فيها واعتملت كل الحضارات والثقافات التي عبرت منه أو انتهت إليه، فإنه لا يلبث أن يصادف فجوات بين المراحل المتعاقبة، بدءا من فترة ما قبل التاريخ حتى العهد الإسلامي، مرورا بالفينيقيين والرومان فالوندال والبيزنطيين. فبين كل هذه الحقب توجد ثغرات ناتجة إما عن موقف مفروض من الخارج أو مواجهة وطنية من الداخل، ولكنها في جميع الأحوال الإيجابية والسلبية تشكل فراغات تعـوق  استمرار الشـريط الحضـاري و الثقافي، وتحول دون وجود الكيان الموحد المتكامل عبر التاريخ. بل إن العهد الواحد قد يشهد توقفات اثر انهيار دولة وقيام أخرى غالبا ما تحاول جهدها لمحو الآثار السابقة، فتبدو وكأنها تبدأ من جديد أو تنطلق من الصفر في مجتمع يوجد لأول مرة، فيضيع بذلك تراث كثير يفرض على الناس أن يهملوه وينسوه. وهذه ظاهرة تولد نتوءات وتمزقات تمنع الرؤيا الواضحة لتاريخ المغرب، سواء حين يتعلق الأمر بجانب السياسة فيه أو جانب الفكر. كما أنها تجعل المؤرخين والمتسلطين على رواية التاريخ وكتابته – وهم كثيرون – يطمسون بقصد وبدون قصد، معالم من هذا التاريخ ويزيفون حقائق منه إذا كانت مرتبطة بشخصيات أو بفترات لا يروقهم إبرازها أو لا يروق معاصريهم من أولي الأمر الحكام، أو من زعماء الطوائف وقادة الهيئات التي ينتمون إليها، إذ الملل والنحل كانت أبدا موجودة في المجتمع البشري وبصيغ متعددة، تتحزب لها فئات من الناس في انحياز مذهبي ينطلق من تباين الرؤيا ووجهة النظر في مختلف شؤون الحياة، سياسية كانت أو فكرية أو دينية.

 

        هذه للأسف حقيقة تكيف طبيعة تاريخ المغرب وتلقي بظلال كثيفة على كثير من مظاهره الحضارية والثقافية، بما فيها من آداب وفنون، تضاف إليها قضيتان اثنتان أظن أننا مطالبون بطرحهما للنقاش، حتى ننتهي منهما إلى توضيح، إن لم ننته إلى نفي أو إثبات.

 

        أما الأولى فتتعلق باهتمام المغاربة بالفقه وتأثر إبداعهم الأدبي بهذا النوع من العلم. وقد لخصها المقري في الأزهار(1) حين ذهب إلى أن " ملكة العلوم النظرية قاصرة على البلاد المشرقية، ولا عناية لحـذاق القرويين والإفريقيين إلا بتحقيق الفقه ".

 

        وأما الثانية، وأظنها ناتجة عن الأولى، فقلة الميل عند المغاربة إلى التسجيل والتدوين، وما يترتب على ذلك من إهمال يصيب الرجال وما ينتجون. وقد عبر اليوسي عن هذه الظاهرة في محاضراته فقال بأن " الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جدا في المغاربة، فغلب عليهم في بـاب العلـم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم " (2)، وكان قد سأل شيخه أبا عبد الله بن ناصر عن السند فيما كان أخذ عنه فقال له: " انا لم تكن لنا رواية في هذا وما كنا نعتني بذلك"(3).

 

* * *

 

        مثل هذه الملاحظة تفضي حتما إلى مشكل المصادر، وهي تقل حينا وتنعدم أخرى، مما يجعل مادة البحث اللازمة غير متوافرة للدارس الذي غالبا ما ينتهي به الجهد المضني إلى مادة مفككة غير مكتملة ولا مرتبطة الحلقات.

 

        وانه لمن المؤسف حقا أن يكون كثير من إنتاج أدبائنا من الكتاب والشعراء قد ضاع لسبب من الأسباب، وان يكون غير قليل من كتب تاريخ المغرب قد لقي نفس المصير، خاصة وأن بعض هذه الكتب يرجع إلى فترة نحن لا نسعف فيها إلا بالنزر اليسير كتاريخ الأدارسة للبرنسي الذي ينقل عنه صاحب القرطاس، وتاريخ القاضي محمد بن عبد الملك بن الودون عن الأدارسة كذلك وقد ذكره صاحب بيوتات فاس الكبرى لدى حديثه عن بيت بني الودون، ومثلهما كتاب " المقباس في أخبار المغرب وفاس " لمؤرخ من منتصف القرن السادس الهجري هو عبد الملك الوراق، وعنه ينقل ابن عذاري والجزنائي وابن أبي زرع، وقبله يذكر كتاب المؤرخ ابي عبد الله محمد بن يوسف التاريخي المعروف بالوراق والمتوفى سنة 292 هـ، وفيه تحدث عن مدن مغربية كالبصرة وسجلماسة ونكور وما إليها من مدن كانت مزدهرة في عصره، وكان ألفه للأمويين، وكثيرا ما ينقل عنه ابن عذاري في البيان.

 

        وإذا كان دارس الأدب قلما يقف على نصوص الإبداع مجموعة في دواوين، فإنه يضطر إلى البحث عن هذه النصوص وأخبار أصحابها موزعة في ألوان من المصادر متباينة، ككتب

التاريخ العام والخاص، وكتب التراجم والطبقات، وكتب الجغرافيا والرحلات، وكذلك في الفهارس والبرامج، وحتى في الكناشات وكتب النوازل الفقهية، فضلا عن الدراسات الحديثة والمعاصرة، سواء منها ما كتب بالعربية أو اللغات الأجنبية، والفرنسية والإسبانية منها خاصة، والكثير منها منشور في صحف ومجلات عربية واستشراقية قلما يتيسر الوصول إليها أو إلى جميع ما صدر فيها من أعداد.

 

        ومثل هذا التشتت لا يواجه الباحث في الأدب المغربي القديم فحسب، ولكنه يواجه كذلك دارس أدبنا الحديث والمعاصر، وهو أدب كما لا يخفى مبثوث في المجلات والصحف السيارة، وإن اتجه أدباؤنا المعاصرون – ولا سيما منهم الشباب – إلى نشر ما عندهم من دواوين شعرية ومجموعات قصصية، على ما فيها من غث كثير باعتبار معظمها مجرد محاولات أولية.

 

        وإذا كانت الدراسات السابقة تمهد السبيل للباحث فيما هو بصدده، فإنها غالبا ما تطرح له إشكالات تتجلى في الأحكام المسبقة التي قد يصادف فيها، وهي في بعضها صادرة عن بحث موضوعي محدود بما كان يمكن الوصول إليه في المكتبة المغربية، ولكن أمر هذه المكتبة لم يعد كما كان، وظهر فيها جديد لا يستهان به، فغدا واجبا علينا أن نعيد النظر في تلكم الأحكام. كما أنها في بعضها الآخر صادرة بعيدا عن الموضوعية وتحت تأثير دوافع ذاتية تختلف اتجاهاتها عند الباحثين إذا كانوا مغاربة أو أجانب، وقد زالت كثير من الظروف التي حركت هذه الدوافع، فأصبح لزاما علينا أن نراجع ما نشأ عنها من أحكام.

 

        وليس معنى هذا أن النقاب كشف كليا عن المكتبة المغربية، ولا أن أسباب البحث العلمي قد تيسرت للدارسين، فما زال الغبار الكثيف يخفي الكثير من تراثنا المكتوب ويتيح للأرضة التهامه، وما زال التخلف الفكري يفرض مواقف التنكر والإهمال والتشويه ضد التراث الذي صدر عن الشعب في جميع المجالات، وما زال الباحثون يتكبدون من المشاق ويلقون من العراقيل ما يعوق عن الاستمرار إن لم يعق عن البـدء، ولكنا مع ذلك نرى حقا لنا نحن أبناء هذا الجيل وحتما علينا كذلك أن نقول كلمتنا، نضيف بها دما جديدا أو نحرك الدم القديم على الأقل.

 

        وإنا لعلى يقين من أنه يوم يزاح الستار عن المكتبة المغربية وما يكملها من مختلف ألوان التراث، والشعبي منه خاصة، ويوم يعاد إلى هذه المكتبة ما عبثت به يد مجرمي الثقافة ولصوصها الذين انعدم فيهم الضمير الوطني والمهني والعلمي، فاستغلوا مناصبهم واستبدوا بمصادر قيمة عجزوا عن الاستفادة منها وعز عليهم أن يستعملها غيرهم، فلجأوا إلى السرقة لامتلاكها والتصرف فيها والحيلولة دون وصولها إلى جمهور القراء والباحثين، وبالتالي تعطيل البحث العلمي ووضع الموانع والمصاعب في سبيله، ويوم يلتفت إلى هذا التراث بجد وصدق، فتقام للنهوض بمختلف مرافقه مؤسسات حية ترصد لها مخصصات كافية، ويوظف فيها علماء عاملون قادرون على تنظيمه وفهرسته ودراسته، ويوم يتاح البحث في كل تراثنا بموضوعية علمية وفكر متحرر من جميع ألوان القيود، يومئذ سيعاد النظر كليا في تاريخنا الثقافي والحضاري، وسيكتب هذا التاريخ من جديد في إطار يبرز الخصائص الحقيقية للذات المغربية، متخطيا مختلف الفجوات والحواجز التي تحول دون تكميل ملامح هذه الذات في جوانبها الوطنية والقومية والإنسانية.

 

        أما الكتب المدرسية التي يزعم أصحابها أنهم يضعون بها تاريخا للأدب العربي، فإن قارئها لا يلبث أن يحس غيابا مطلقا لبعض الأقاليم العربية ولا سيما المغرب، وان ينتهي من قراءتها – نتيجة هذا الفراغ المهول – إلى إدراك الخلل الذي تعاني منه منهجا ومادة. والسبب أنها تؤرخ للأدب وفق نظرية تعتمد ربط الأدب بالسياسة، وبالسياسة في منطقة معينة، مما جعل مؤلفيها يقعون في أخطاء كشفت عن عيوب منهجية واضحة، مرجعها أن السياسة لم تكن تسير في اتجاه واحد في جميع البلاد العربية، وأنها مهما تكن لا تنهض بأحداثها وتطوراتها المفاجئة مقياسا للأدب أو موجها له. ونتج عن ذلك أن وقف مؤرخو الأدب عند بلاد معينة وسياسة معلومة قسمت إلى عصور، وعند أسماء غدت لامعة براقة لأنها كانت تواكب هـذه السياسة، ونتج كذلك أن أهملت بعض البلاد، وحكم على عصور بالازدهار وعلى أخرى بالانحطاط.

* * *

 

        بهذا أراني أصل إلى قضية المنهج، وأعترف منذ البدء أني ربطته برسالة الجامعة. وهي تقتضي – فيما أرى – تلبية حاجيات الأمة من الأطر، كما تقتضي استثمار الطاقات الفكرية لنمو المجتمع والسير به في طريق التقدم، حتى تصبح الجامعة جزءا من تاريخنا الوطني ومحركا في نفس الآن لهذا التاريخ، إن لم تكن صانعه. ولن يتسنى لها النهوض بهذا الدور إذا هي لم ترتبط في برامجها ومناهجها بطبيعة البلد وواقع المجتمع وبالاختيارات التي أجمعت عليها الأمة.

 

        ومثل هذا الارتباط سيجعل الجامعة تلح في أهدافها على نشر الوعي وتوجيه الرأي وصقل الذهن وتوضيح الرؤيا وتعميق المفاهيم وتهذيب القيم وتفتيح الآفاق لنظرة وسلوك علميين. وسيجعلها تلح كذلك على جعل العلم في خدمة قضايا الوطن ومشاكل التنمية، والتوسل به في تحديد ملامح شخصيتنا وذاتيتنا وكشف السبيل لمستقبلنا القريب والبعيد. كما سيجعلها تلح على إعطاء منظور قومي واضح للعلوم الإنسانية، وعلى تكوين ثقافة وطنية أى على صياغة فكر جديد ينقل من خلاله الفكر القديم إلى الأجيال الناشئة بعد تغيير النظر إليه وإخضاعه لمقاييس النقد العلمي، حتى يتاح لهذه الأجيال أن تتعرف إلى تجارب الماضين وتدرك أسرار التطور، وحتى تتمكن عن طريق دراسته وطرح قضاياه للبحث والتحليل والنقد أن تنمي فكرها وشخصيتها وتربي فيها استقلال الرأي.

 

        انطلاقا من هذا المفهوم لرسالة الجامعة، وقد كنت فصلت عنها القول في كتابي عن "الثقافة في معركة التغيير "، واقتناعا بأن تواريخ الأدب المعروضة على التلاميذ والطلبة في المدارس والجامعات لا تطابق الواقع الفكري للأمة العربية، واقتناعا كذلك بأن المنهج التاريخي في عمومه لا يسعف في تلبية  ما نطمح إلى تحقيقه في مضمار الدرس، بدا تناولي للأدب المغربي سواء في تدريسه بالكلية أو في الأبحاث التي نشرت، بمنهاج تشكل عندي في إطار ومحتوى أو نوع وكيف.

 

        أما الإطار فيتمثل في الاقليمية التي تعتمد البيئة ومقوماتها ومؤثراتها   أساسا للدراسة. وأؤكد أنني حين أقول الاقليمية  وتأثير البيئة في الأديب لا أنسى الشخصية الذاتية والموهبة الفردية، ولا أعني تضييق الأفق والانحصار في إطار المحلية، ولكني اعتبرها الوسيلة الوحيدة للم شتات الأدب العربي في كل الأقطار التي أبدعته، والوسيلة كذلك للعالمية والإنسانية بل إني أرى أنه كلما قسم نطاق الإقليم في الدراسة إلى بيئات صغيرة، كانت دراسة الإقليم مكتملة ومستوفاة، وهذا ما يجعلني أحبذ الأبحاث والتواريخ التي ألفت وتؤلف – ولو بطريقة قديمة – عن مدن وأقاليم كمراكش وسوس وتطوان والرباط وفاس، فإنه من مجموع هذه الكتابات يمكن تهيء المادة التي قد تساعد على استخراج الصورة الحقيقية للمغرب، سواء في تاريخه السياسي أو الفكري.

 

        ويكتمل الإطار عندي بعناصر ثلاثة:

أولها: النظر إلى الأدب من خلال نوعيه المدرسي والشعبي.

الثاني: اعتبار مفهومه شاملا لكل الإنتاج الفكري لأمتنا دون حصره في نطاق الشعر والنثر الفني كما يحدده الاصطلاح المدرسي الضيق لمدلول الأدب.

الثالث: تناوله سواء في قديمه أو حديثه عن طريق طرح ظواهره وقضايا.

 

          وأما المحتوى أو الكيف، فيقضي معالجة هذه الظواهر والقضايا بفكر نقدي يستند إلى الواقع والمعاصرة، وبجدلية وموضوعية تعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية، بعيدا عن أي توثن أو معتقدية متزمتة أو موقف تبريري، إذ في ظني أنه لا يمكن فصل المنهج عن المضمون كما أنه لا يمكن ممارسة نقد قبلي، أي نقد سابق على المعرفة.

 

        ويقضي محتوى المنهج عندي كذلك أن أنظر إلى تلك القضايا والظـواهر من زاوية تعطي الأسبقية للتمثل العقلي على النقد التأثري، أي بنظرة فكرية عقلانية وليس إلى مجرد التذوق الفني النابع من الإحساس الجمالي والتأثر العاطفي والانفعال الانطباعي بالأثر المدروس. وإن كنت لا أنكر أهمية المنهج الفني وجدواه بالنسبة لنوع معين من الموضوعات، وقد سبق لي أن جربته في بعض الأبحاث، وخاصة في دراسة لي منشورة عن " فنية التعبير في شعر ابن زيدون ".

 

        وبهذا يحقق المنهج جملة أهداف، في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من حرارة يحث تحسسها على إدراك ما يتكثف تلك الدلالات من مضامين فكرية، باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا،  أو انه بعد أولي يخفي أبعادا أخرى عميقة. وبذلك تبرز قيمة الإبداع، وتبرز من خلالها كل الشحنات الشعرية والطاقات الفكرية والمضامين الإنسانية والأبعاد الصراعية سلبا وإيجابا.

 

        كما يحقق المنهج من أهدافه إثبات الوقائع وربطها بالأسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة القريبة والبعيدة،واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها.

 

        وأثناء هذا كله يتحقق هدف ذاتي لا أخفيه، يتلخص في التجربة الفكرية النقدية التي أشعر بها من معاناة البحث، وما ينشأ عن التجاوب مع الموضوع من ردود فعل تعتمل في العقل والإحساس بتلقائية وإمتاع.

 

        وفي اعتقادي أن مثل هذا المنهج هو الذي سيعلمنا وسيجعلنا نعلم طلابنا كيف يوقف على النصوص والأخبار لاستنطاقها، وكيف تطرح الأسئلة وإن لم تتيسر الإجابة عليها دائما، وكيف ترفض الأحكام السابقة للنقد، وكيف تقدم تقويمات جديدة على أساس من البناء العقلي ومن التفكير في واقع التاريخ ولحظات الأحداث وممارساتها وما يحيط بها من ملابسات. ولعلي في غير حاجة إلى القول بأن طرح المعضلات – وما أكثرها في تاريخنا السياسي والفكري – أشق في أحيان كثيرة من حلها، لا سيما حين يجازف الدارس بأحكام وآراء يعرف مسبقا أنها معرضة للنقد والنقض.

* * *

 

في نطاق هذه المعطيات أقدم جزءا عن أدبنا، آمل أن تعقبه إن شاء الله أجزاء أخرى، لا أقصد منها إلى مسح لهذا الأدب أو إلى تغطية تاريخه وتتبع حركته على ما في كمه وكيفه من امتداد، ولكني أقصد إلى تناول جوانب من هذا التاريخ وذاك الأدب من خلال ظواهر وقضايا تشترك بتفاوت في تحقيق الكثير من أهداف المنهج الذي ارتأيت للبحث، وإن كنت طرحتها في مجالات ومناسبات علمية مختلفة. وهي متخيرة من القديم والحديث في غير خضوع لأي تسلسل تاريخي، وإن جاء هذا التسلسل عفوا في بعضها. كما أنها محصورة في إطار المغرب الأقصى إلا في حالات اقتضت تناول الظاهرة أو القضية في نطاق الشمال الإفريقي كموضوعي العصر الجاهلي والتجديد، أو النطاق العربي الواسع كما في موضوع المسرح.

 

وإني إذ أضيف هذا العمل إلى بقية الأعمال التي أنجزت في مضمار الفكر المغربي، لا أملك إلا أن أعترف بأنها مجرد جهود قاصرة واجتهادات متواضعة، حسبي منها أنها تطرح منهجا لدراسة أدبنا، وأنها تتيح للقراء عامة، والجامعيين منهم خاصة، فرصة التعرف إلى هذا الأدب، وأنها تفتح للباحثين بعض الآفاق الجديدة، ولا سيما منهم طلابنا الذين ينجزون في نطاق الدراسات العليا أبحاثا تبعث على أمل كبير بالمستوى الذي تطمح إلى إدراكه، وبما تنم عنه من صبر ووعي.

 

والله نسأل أن يوفقنا ويفق جميع العاملين المخلصين.

الرباط – صيف 1978

                                                                   عباس الجراري

 

ــــ

1.      ج 3 ص 26.

2.      نفس المصدر.

3.      ص 59 ط حجرية.